الاثنين، 18 مايو 2009

البـــرواز والكومنــــــدا - لصلاح ابوشنب


البــــرواز والكومنــــــــــــــدا
لصلاح ابوشنب

وسط البهو الواسع كان يرتفع برواز كبير تجاوز الثلاث أمتار طولا والمترين عرضا ، عُلـّق أعلى الحائط المواجه للعنابر الخمسه التى يشغلها العاملون الفقراء الذين ألجأهم العوز الى العمل فى هذا المكان المليىء بغبار الادخنه القاتل ، التى ترتع سمومه فى صدورهم وترعى فى اجسامهم . كان البرواز مصنوع من خشب الابنوس المطلى بماء الذهب ، فى داخله لوحه زيتيه تصور الخواجه كارابيللو واقفا على قدميه بقبعته السوداء وعصاته العاجيه ، وسيجاره الغليظ المصنوع من توليفة التبغ الهافانى الفاخر ذو الاوراق الذهبيه الناعمه ، الوارد من كوبا ، كان يقف بشموخ ، مقتضب الجبين ، حادق العينين بأنفه الرومانى المستطيل المعكوف . يقف مشدودا رغم قامته القصيرة ، وكأنه حارس لتلك المقاطعه الصغيرة المحتكره لصناعة التبغ المخصوص الذى يتم تصديره الى أوروبا وخاصة أثريائها وكبار مشاهيرها.
كانت تلك اللوحة تستهوى منتصر الذى عين حديثا فى ذاك المصنع النازل فى بطن الارض قليلا ، كان شديد الاعجاب بالقيمه الفنيه لتلك اللوحه وذاك البرواز الذى يحيطها ، شديد الحنق على الذى كان يقبع داخله ، كلما مر من هناك توقف يتأمله ، هناك كان يطرح السؤال الحائر فى نفسه : ألم يعلن الزعيم أن مصر للمصريين .. ألم يؤكد كتيب الميثاق الذى فرضت علينا دراسته ضمن المنهج على هذا المعنى فى كل سطر من سطوره ؟
المعلم جابر رجل عريض المنكبين قوى البنيه ، أكرش ، عابس الوجه دائما . كان العمال يدعونه أبو الغضب . جاء من احدى قرى الريف المصرى المتاخمه للثغر ، بعدما عانى من الاكتراء فى حقول الغرباء الى ان احترق جلده واسودت بشرته . وجد فرصته فى مصنع الخواجه كارابيللو لقاء عشرة قروش صاغ فى اليوم .. استحسن الخواجه كارابيللو بنيته وغبائه فعينه كوماندا ، او بمعنى أوضح راعى للقطيع ، وسرعان ما أمر بتسليمه أدوات العمل ، بالطو من التيل الاصفر السميك وخيزرانه ، ورفع راتبه قرشين ، قرش لقاء القسوة والغباء الذى يتميز به ، والقرش الثانى لقاء اخلاصه فى حمل الخيزرانه . فرح ابو الغضب بمنصبه الجديد وراح يمارس مهام وظيفته بمهارة على المقهورين بجداره . امعانا فى إرضاء الخواجه . لم يدع احدا يفلت من عصاته لا العامل الكبير ولا الفتى الصغير . كان من بين عمال المصنع فتى قوى الجسم اسود الوجه أفطس الانف ضخم الشفتين قليل الفهم ، تلك المواصفات اعجبت ابو الغضب فاتخذه مساعدا له وسماه المعبطجى ، لانه كان يأمره بعبط أى عامل بمجرد أن يشير اليه . لم يتوانى المعبطجى فى عبط أى شخص بشده بكلتا ذراعيه حتى يلتصق صدره بصدره مسلما مؤخرة المعبوط الى خيزرانة ابو الغضب يضربها كيف يشاء على مرأى ومسمع الجميع دون أن يبالى بصراخ العامل وتألمه.
كان كارابيللو يسكن فى فيلا فوق مبنى المصنع ، وأذناه تسمع لكل ما يحدث اسفل منه ، هذا غير التقرير اليومى الذى يمده به مدير المصنع الحائز بالكاد على شهاده الثقافه ، والذى كان يضمن تقريره كل كبيره وصغيره نقلها اليه أبو الغضب حول سلوك العمال وتصرفاتهم ، وبينما يتولى كوهين ترجمة التقرير للخواجه كان الخواجه يمد اصابعه لتقديم المكآفأة اليوميه للمدير والتى كانت عبارة عن عدة كئوس من الويسكى الأبيض لقاء اخلاصه وخبصه . بعد تلقيه المكآفأة ينصرف مخمورا يترنح فوق درجات السلم الرخامى الحلزونى الشكل قابضا بكلتا يديه على الدربزان الحديدى ، يتلقاه أبو الغضب ويجلسه على كرسيه الفخم ، يسارع المعبطجى الى وضع مبسم النارجيله فى فمه الذى تفوح منه رائحه الخمر.
لم يكن احد من العمال يتجرأ بالمطالبه برفع اجره الزهيد ولو قرشا واحدا دون أن يتلقى صفعه على وجهه من قبل ابو الغضب قبل ان يكمل مطلبه ، ومن يحاول ان يصل الى أبعد من ذلك فإن علقة ساخنة تنتظره يعقبهما الطرد المهين ، الا ان يجثو لتقبيل اقدام المدير استعطافا واسترحاما من اجل ان يتغاضى عن قرار الطرد. من كان يتطاول عقب العلقه ويظن انه قادر على ان يفعل شيئا مدفوعا بوطأة الألم والرغبة فى رد الاعتبار بعد سيل من الركل المتواصل والضرب على القفا أمام الباقين ، فإن مكالمة هاتفيه قصيرة الى قسم الشرطه المجاور كفيلة بأن تنسيه نفسه بعد أن يضرب ويهان وتبعثر كرامته بما هو أشد إيلاما من خيزرانة أبو الغضب .
كان قسم الشرطه يتودد الى الخواجه نظير ما يتلقاه من حصة تموينيه منتظمه تحتوى على مختلف انواع الادخنه والمعسل ، إضافه الى كميه وافره من الأوراق والاقلام والمساطر والكربون الذى يستخدم فى تحرير المحاضر ضد العمال الضعفاء الذين لم يجدوا من يدافع عنهم فى وقت غابت فيه النقابات العماليه وانعدمت فيه المؤسسات الحقوقيه ، وغاب فيه أى نوع من التأمين على صحتهم المهدره .
كان المارد ناصر هو الامل الذى يعقد عليه الجميع الخلاص من ربقة عبودية الاقطاع وتحكم الرأسماليه واحتكار الاجانب .
فى بهو فيلا كارابيللو قفص ذهبى رائع بداخله ببغاء أمازونى بديع الشكل كبير الحجم ذو ألوان زاهيه من الاحمر القانى والازرق يرمق الداخل والخارج ، ويتفحص الوجوه ، كلما مر عليه كارابيللو القى عليه التحيه بالايطاليه قائلا : بنجورنو ، أى صباح الخير ، فيرد الببغاء قائلا : بنجورنو سينيورى ، أى صباحك خير يا سيدى ، لكن عثمان الطباخ كلما مر عليه فى غياب الخواجه بصق عليه وقال له : متى ستغرب عن وجوهنا أنت والخواجه بتاعك ، وتروحوا فى داهيه ؟
فيجيبه الببغاء : بنجورنو سينيورى ....
فيرد عثمان : روح جاتك داهيه مستعجله انت والخواجه بتاعك .
فى ظهيرة يوم من أيام صيف عام 1961 ، كان منتصر يقف كعادته أمام برواز الخواجه يتأمله ويقول له : متى ستغرب عن أرضنا أيها المحتكر القميىء ؟ لم ينتهى من تأملاته حتى تناهى الى سمعه اصوات هتافات آتيه من الشارع المجاور . اسرع الى اقرب نافذه فإذا به يلتقط صوت الراديو القادم عبر احدى شرفات مسكن مجاور . كان الزعيم جمال عبد الناصر يعلن قرار التأميم التاريخى . صاح منتصر : عاش جمال عبد الناصر .. عاش جمال عبد الناصر . لم تمضى سوى لحظات حتى كان العمال كلهم يهتفون : عاش جمال عبد الناصر . نهض المدير وخلفه ابو الغضب لمنعهم من الهتاف .. لكنهم دفعوهما بقوة وأوسعوهما ضربا وركلا .. اندفعوا كالطوفان الى البرواز فأنزلوه ومزقوه .. داسوه بالاقدام .. القوا ببقاياه فوق رأسى المدير وأبو الغضب ، بينما فر المعبطجى الى عرض الشارع يبحث عن ملاذ يحتمى فيه .
بلغ الخبر كارابيللو فأسرع الى فيلته فوجد مندوبى الحكومه فى انتظاره . نظر الى الببغاء وقال له : فينيتو توتو ، أى قد انتهى كل شىء .
فرد عليه الببغاء قائلا : روح جاتك داهية مستعجله .
لم يخفى اندهاشه وقال : هو انت خلاص بقيت مصرى مثلهم !
=================

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق