الاثنين، 18 مايو 2009

الجــــــــــــــــــــــــــــــــن - الظهــــور الأول


الجــــــــــــــــــــــــــن
الظهور الاول
لصلاح ابوشنب


فى شقة جديدة لم يؤثثها بعد سوى بسرير صغير واحد وضعه فى احد اركان غرفها جلس فى الشرفه المطلة على الميدان يتابع زُمر المتسوقين والبائعين الذين توافدو من كل مكان للتسوق من بضائع هذا السوق الكبير والذى كان قبل سنوات مجرد شارع تمر به ترعه وزعت الناموس على كل القاطنين به ، وحرمتهم النوم الا قليلا ، والذى تحول فى خلال شهور قلائل الى اوسع شارع واكبر ميدان وسوق فى المدينة بعد ردم الترعة وتنفيذ قرار ازالة صف المبانى بالكامل من أول المزلقان وحتى الميدان ، وسريعا ما تم تجميل المكان ، فأصبح مَبْهَجًا وتسْليًة للناظرين . دلف الى المطبخ الكبير واعد لنفسه فنجانا من القهوة التركى من البن المحوج الذى احضره معه من جده والذى يعطى رائحة ذكية عشقها وأدمنها ، اثناء وقوفه أحس وكأن ظلا قد مرق سريعا من جانبه ودخل فى الغرفة المجاوره للمطبخ ، لم يعر الامر اهتماما ، واكمل فنجاله واتجه الى الشرفه وفى طريقه اليها سحب كرسيا بيده اليسرى فجلس عليه يتابع المشهد النابض الذى يشبه خليه النحل النشطه . قبل أن ينتهى من شرب القهوة كان وقت المغرب قد حان وشيئا فشيئا اظلمت الحجرات فقام فأضاء مصباح الغرفه التى يجلس فى شرفتها .
لم تمضى سوى لحظات حتى سمع نقرا منتظما ومتكررا يصدر من سقف الحجرة . قام يفتش عن الصوت . احضر سلما صغيرا صعد عليه حتى قرب اذنيه من المصباح ، ففوجىء بأن النقر يصدر منه . تعجب .. ظن أن المصباح على وشك الانفجار لسبب فنى لا يعرفه . استبدله بآخر فى الحال . وما أن جلس على المقعد يتابع المشهد حتى عاود النقر من جديد ، كان النقر يشبه صوت اصطدام الملعقة بكوب الشاى عند التقليب ولكن برقه وانتظام ، عمد الى اطفاء المصباح ، بينما اضاء مصابيح باقى الغرف بما فى ذلك الحمام والمطبخ . فلم يصدر أى صوت من أى منها ، بينما ظل النقر مستمرا فى مصباح حجرة الشرفه حتى وهو منطفىء. كان الليل قد ارخى سدوله وقرب على منتصفه عندما سمع باب المطبخ يغلق بعد حدوث دفعه قوية من الهواء آتيه من المطبخ نفسه رغم ان الوقت صيفا ولا توجد ريح البته توجه الى المطبخ غسل فنجال القهوة ، ظن أن النافذه التى فى المطبخ والتى تطل على المنور مفتوحه فوجدها مغلقه . عاد الى مجلسه يتابع المشهد ، لم تمضى سوى لحظات حتى سمع صوت مياه صنور المطبخ تنسكب بشده ، وتبع ذلك صوت سقوط حاد للأواعى المعلقه على الرفوف ، أسرع الى هناك فوجد الصنبور قد فتح عن آخره وجميع الاوانى الخزفيه والاكواب الزجاجيه ملقاة فوق الارض . العجيب فى الامر انها لم تنكسر وكأنها وضعت بأيدى أمينه وبكل رقة وهدوء .
أغلق الصنبور وترك الاواعى لحين حضور الخادم فى الصباح الذى سوف يتولى غسل الارضيه والنوافذ كعادته كل عام . أغلق باب المطبخ وحمل المفتاح فى جيبه . جلس يتابع المشهد . مرت لحظة سكون رهيبه اخذته بعيدا ، كان عازما على المبيت ليلته هناك لكنه عدل عن رأيه ، انتشله من تفكيره صوت الصنبور يفتح من جديد فهرع الى المطبخ مسرعا . فتح الباب وجد الصنبور مغلقا ، ولكن الأوانى قد عادت الى اماكنها من تلقاء نفسها . قال بصوت مسموع : سبحان الله .. عفاريت اصحاب ذوق واحساس . خرج من المطبخ . اغلقه بالمفتاح مرة اخرى ووضع المفتاح فى جيبه ثم دلف الى الحمام فتوضأ . توجه الى الصالة المتراميه فرش سجادة الصلاة الجديدة التى احضرها معه من مكه المكرمه وكانت أول ركعتين يصليهما فوقها ، جلس على الكرسى الهزاز الذى كان قد اشتراه مع لوحة زيتيه قديمه من سوق العطارين بثمن زهيد جدا وقد لاحظ يومها أن البائع كان حريصا على التخلص منهما بأى شكل . ما أن استقر ظهره على المقعد ومال الى الخلف حتى شعر وكأن كفى شخص ما يقبضان على ظهر المقعد ويحركانه بهدوء الى الأمام تارة والى الخلف أخرى ، عندما هم لسانه بقرآءة آية الكرسى بقلبه القوى أحس بأنفاس حارة تصطدم بأذنه اليمنى وصوت نسائى مبحوح يهمس فيها قائلا : نحن اصحاب الذوق والاحساس .. هل يعجبك هذا التدليل .
قال : من أنتم ؟
قال الصوت : نحن اخوانك .
قال : وماذا تريدون ؟
قال الصوت : الخير ولا شىء سواه .
قال : أوضحوا ...
قال الصوت : نراك تحب العلم ونحن كذلك ..
قال : ثم ماذا ؟
قال الصوت : نعلمك ونتعلم منك ..
قال : أنا مسلم .
قال الصوت : ونحن كذلك
قال : وما الدليل ؟
قال الصوت : سنلتقى ان شاء الله سويا فى الحرم المكى .
كان قبل أيام قد توجه الى مكتب الخطوط السعودية بمحطة الرمل لتأكيد حجز العودة ، لكنه لم يوفق وطلبوا منه أن يعود بعد يومين ..
قال : متى هذا ؟
قال الصوت النسائى الأجش : ألم تذهب قبل أيام لتأكيد حجزك ؟
قال : بلى
قال الصوت : لقد تم تأكيده الآن ، أثناء حديثى معك ، وسوف تسافر أن شاء الله يوم الحادى والثلاثين من اكتوبر الحالى على الطائرة المتجهة الى جده . وهناك سوف يكون لنا لقاء انشاء الله .
قال : وما أمر النقر على المصباح واسقاط الأوانى ؟
قال الصوت ضاحكا بخفوت : أردنا أن نختبر قوة تحملك ظهورنا .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق