الاثنين، 18 مايو 2009

الجـــــدائــــل والعقـــــد - لصلاح ابوشنب



الجــــدائل والعقـــــــــــد

قصة لصلاح ابوشنب

جميلـــــة وهى حقا جميلة تلك القروية ذات الشعر الاصفر المجـــــدول والذى يشبه جدائل الذهب البندقى الخالص أحبها وهــــــــــى صغيرة وانتظرها شطرا من العمر حتـى نضجت وتزوجها بمباركة الاهل . كان عرســـا تحدثــت عنـه القرية بكاملها لسنوات ، احبها حبا شديدا لكنها لم تكــــن تعـرف ماذا تعنى كلمة حب ، كان يعود من عمله فيجدها تصنــــع اصناما من صلصال وتشكلها على هيئة عمدة وشيخ خفر وعساكر ثم تضع عروستها المحشـــوة بالليف الشجــــرى فــــوق السرير النحاسى الذى تتدلى من حوله ستائر التل الابيض مـــــــن كل النواحى كأنه هودج . تـَصُّف عساكرها وخفرائها من حـــولها وتـُجْلِس العمدة عن يمينها وشيخ الخفراء عن يسارها كمـــا لو كانت أميرة من أمراء الف ليلة وليلة أو حُورية من حوريــات الفردوس . بمجرد ان يدق زوجهـــــا باب الــــدار تســـارع بالاختباء تحت السرير وتتفلت من بين يديه هروبا فى ارجــاء الدار. يركض خلفها من غرفة الى غرفه ركضا بطيئا عامــدا أيـــاه ، فهــو لا يرغــب اللحـاق بها كى لا يفزعها فتزداد منه نفورا.
كان يَرْشُقها بكلمات الغـــزل وهو خلفها يهرول هرولة الاحبه وليس هرولة العساكر والحــرامية ، لم تكن تلتفت اليه ولا الى كلماته الجميلة ولا اعارتها اهتماما . حين كان يصل يقينها الى درجة الصفر وهــــى واقعة بين يديه لا محالة تكْمُنُ فى ركن بين كُوّةِ التنور والـــّدرج كما يكمن طير السمان حينما تخونة اجنحته مواصلة الطيــران . تجلس القرفصاء مستسلمة وكأنها تصلى فى محراب البتول يحتويها الركن اللبنى السميك. يرفـع الخوف الكامن فى صدرها الراية البيضاء تضامنا مع احتجاج جوارحها ، تطأطأ رأسها وبحركة سريعة تغطى كامل وجهها الـــذى يُشعُ براءةً وجمالاً يتحدى ملكات العروش مصطنعى العيون والرموش ، الممتلئه وجوههن بالاصباغ والرتوش . راية بيضاء مرفوعة فى شديد من الحيـاء موضوعــه . كانت لحظة اللقــاء بينهمـا صعبة المنال ، فما ان يقترب منهــا حتى تصده بقولها : - عيب هذا الذى تفعله يابن العم . ما ان يسمع تلك الكلمـات حتى يتأخر عنها ويبتعد . تتراخى أعصابه وتتراجع أصابعه ويتبدد اشتياقه . يربت على كتفيهــا برقه وحنان . ينسحب فى هدوء الى مجلس الرجـــال . يجلس علـــى الدكه الخشبيه يلعق فلتر الدخان بعد أن تكون السيجارة المعـدن الكوتاريللى قد احترقت عــن آخرهـــا . فـــى تلــــك اللحظـــة يشعـر عفيفـــى بالخجل ممــا يفعل وتتملكه لحظــــة صمــت يتوقف فيها عن الحركة ويطرق نحو الارض . ينطلق تفكيـره مـــع انطلاق سحب دخان سيجارته ، ترى هل كان مخطئا حين قبـل الزواج مــن تلـك الصبيه البريئه التى لا تعرف من دنياهــا سوى الدميه والعسكر والعمدة وشيخ الخفر والى متى سيظل يعانى مــن تلــك التصرفات الطفوليه وهــذا الصـــد المتكـــرر ؟ لقد أحبهـــا منــذ أن شاهدهــا لاول مرة تجـرى فــى ارجاء بيت ابيها الذى هـــو عمه بجدائلهـا الذهبية المتدلاة ، ولم تكن قد بلغت عامها السابــع ، كانــت رائعــــة الجمال منـــذ ولادتهــا ، لم تنجب نساء القرية من تضاهيهــا ، وكأنهــــا أتــــت مــــن احــدى قرى اسكندينافيه . منذ تلـــك اللحظة عقــــد فـــى نفسه العزم على أن تكـــون تلك الصغيرة هى زوجة المستقبل . عـاد مـن الحقل ذات مساء بعد أن باشر الأُجَرَاء والمَكـَاِريين يملئه الشوق ويدفعه الحنين الى الالتقـاء بمعشوقــة قلبـــه . وجــــد الدار خاليه . دلف الــــى دار عمــه التى لا تبعد سوى خطوات فوجدها هناك .. رفضت العودة . تنحت بها امها جانبا وسألتها هل يؤذيك بن عمك يا بنيتى ؟ لا يا أمى .
الأم : اذن فلماذا تركت الدار ؟
جميلة : انه يريدنى أن اتخلى عن ملابسى !
لم تفلح محاولات الأم فى اقناعهــا بالعودة الى بيت زوجها فتم الطلاق فى هدوء دون أن يشعر احد . كانت جميلــة ما تزال بكرا ، سارعت امها بخطبتها الى بن اختها درءا للقيــل والقال رغم معارضة الاب ، كثير من العرسان تقدموا ولكـــــن الام فضلت بن شقيقتها وتمت الخطبه وسافر العريس للعمـل . لم تنقطع زيارات عفيفى لـــدار عمه فهو الذى رباه بعد وفاة ابيه وكان اقرب الناس اليه ، ولكن السنة الناس بــــدأت فى اطلاق الشائعات . أرسلــت شقيقات العريس الجديد الى اخيهم تبلغانه بأن زوجها الاول لم تنقطع قدمــاه عـــن الدخول الى دار عمه فهاج وماج وعاد مسرعا . عُقد المجلس العرفى .. وقــف العم وسط الحاضرين ليعلن انه لا يستطيع منع بن اخيه من دخـول البيـــت . قـــام شيخ المجلس وســـأل العريس ان كــان يرغب فى حسم القضيه فليذهب من فوره لاحضـــار المـــأذون لعقــد القران واخذ عروسة الى داره ، لكن العريس تلكأ وتلعثم . ما ان سمعت جميلـــة قول شيخ المجلس حتى جاء صوتها من خلف الحجاب لتعلــن تضامنها مع ابيها وتقر بأنها سوف تعود الى بيت عفيفى . عـادت جميلة الى بيت عفيفى بنفس راضيه وقلب مفعم بالحــب وكأن كــل كلمــات الغــزل التى كان يبثها عفيفى فى خزانة صدرها قد خرجت دفعة واحدة وتحولت الى حب عارم كانت نتيجته انجاب اربعة توائـــم دفعة واحدة كلهم ذكور ، وما كادت لتنقضى فترة الرضاع حتــى اثقلت بحملها الثانى . ذات ليلة من ليالى شهرها التاسع واثناء قيامها باعداد طعام العشاء خرجت منها صرخة استغاثه ، وقبــل ان يصــل اليها عفيفى كانت قد غُشى عليها وسقطت على الارض . فــى المستشفى وفى اللحظة الأخيره قبل ان تنطلق روح جميلة الى ربها استطاع الاطباء انقاذ ثلاثــة أجنــة ذكور اصحاء . . حـًبٌ جارفٌ وِِحِملٌ ثقيلٌ تركته لعفيفى ورحلت عن دنيانا مسرعــة . . اثناء المأتم هََمَسَتْ دمُـــوعُ عفيفــى فــى اذن عمه : هل توافق يا عم ان تزوجنى من ابنتك الاخرى ؟ قال الاب والدموع قد غسلت وجهه والكلمات قد احتبست فى حلقه : وهل هذا وقته يا ولدى ؟
عفيفى : غصب عنى يا عم .. والله غصب عنى .. لقد همست احداهــــن فى اذنى عند المقبــرة قائلة : لقـد عَقـّدَت بعضُهـن جدائل شعر زوجتك اثناء تكفينها بسبع عقد .!!
برقت عينــا العـــم وهو يسمع تلك الكلمات ثــم قال : ولماذا لم تقفز خلف بنت عمك وتفك العقد ؟
عفيفى : كنت منهاراٌ يا عم .. ثم اين تلك الأصابع التى تتجاسر على فعـــل ذلك بجميلـــة .. لا استطيـــع ان افعل ذلك حتى لو كفـّنونى معها .
العم : وماذا انت فاعل ؟
عفيفى : يقولون اما ان أحــل العقد السبع بنفسى أو اتزوج قبل أن يَحُل الأربعين .. أو ابقى خارج الخدمة لمدة سبع سنين .....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق